المرض العقلى في العصر الإسلامي :
إذا بحثنا في توجه الإسلام للتعامل مع المرض العقلى , لوصلنا إلى
مصدرين أساسيين يشكلان ن هذا التوجه ، هما :
( ا ) لم تستخدم كلمة < مجنون > في القرآن للإشارة إلى الشخص الذي فقد عقله أو
الشخص الذهاني , بل جاء ذكرها خس مرات في القرآن تفسيرا” لكيفية
إدراك الناس للرسل والأنبياء .
(2) وقد ذكرت كلمة الجنون في القرآن في وصف ما يلاحظه الناس على كل الأنبياء من شذوذ عن المعتاد وبعد عن المألوف , حين يبدأون دعوتهم التنويرية , وقد اقترنت الكلمة أحيانا” بالسحرة أو الشعراء أو العلميين , وبشكل ما نجد أن هناك مضمونا” إيجابيا” للجنون ء يزعزع النظرية المضادة للطب النفسي في تفسيرها للجنون , و التي ازدهرت في منتصف الستينيات.
ويرجع أصل كلمة <مجنون > إلى كلمة < جن > , وكلمة << جن>> فى العربية لها
مصدر واحد مع عدد من الكلمات الأخرى ذات المعاني المختلفة , ويمكن
استخدامها للإشارة إلى الشيء المستتر أو الخفي , كالستار ، والدرع . فالجن أحد
مخلوقات الله الخفية المستترة , والجنين مستتر داخل الرحم , والجنة خفية لايمكن
إدراكها , والمجنون ستار على عقله .
ولا يجوز أن نخلط بين الاعتقاد الخاطئ الحالي بأن المجنون هو من مسه
الجن , ومفهوم العصور الوسطى عن الجنون , فالجن في الإسلام ليس بالضرورة
شيطانا” , أي ليس بالضرورة مرادفا” للروح الشريرة , دائما” بل هو روح خارج دائرة
قوانين الطبيعة المحسوسة أقل منزلة من الملائكة , فبعض الجن مؤمن ويستمع
إلى القرآن ويساعد في اتجاه العدالة الإنسانية . وحيث إن الإسلام ليس موجها”
للبشر فقط ولكن إلى العالم الروحاني بأكمله . مما أثر على مفهوم المرضى
العقليين والتعامل معهم , فحتى إن تملكهم الجن مجازا” فإن هذا الامتلاك قد يكون
من قبل الأرواح الخيرة أو الشريرة ء ومن ثم فلا مجال هنا لتعميم العقاب أو صب
اللعنات أو تعذيب المرضى .
والى جانب النظرة إلى الجنون باعتباره مسا” من الجن , نجد نظرة أخرى
إيجابية حيث ينظر الناس إلى فاقد العقل باعتباره شخصا” مبدعا” , خلاقا” , جريئا” في محاولته لإيجاد بدائل لنمط الحياة الساكن . وبهذا المعنى فقط , وجهت تهمة
الجنون إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء الآخرين . ونجد الفكرة ذاتها في المواقف
المختلفة من عدد من الغيبيات المعينة مثل الصوفية , حيث دفعت خبرات التمدد
في الذات والوعي إلى نعتهم بالجنون , كذلك فإن مذكرات بعض الصوفية تعكس حدوث بعض الأعراض الذهانية , وكثير من المعاناة العقلية التي يعانون منها في
طريقهم إلى خلاص النفس .
أما المفهوم الثالث للمرض العقلى , فهو نتيجة لعدم الانسجام أو ضيق
الوعي الذي يتعرض له المؤمنون , ويرتبط بتزييف طبعية تكويننا الأساسي
(الفطرة ) وكسر انسجام وجودنا بواسطة الأنانية أو الاغتراب , الممثل جزئيا” في
افتقاد الاستبصار المتكامل , ويمكننا أن نفهم هذا المستوى أكثر إذا كان على معرفة
بروح الإسلام , كأسلوب وجودي للحياة والتصرف والارتباط بالطبيعة والاعتقاد
الدفين فيما وراء الحياة , والذي لا يجب بالضرورة أن يكون ما فوق الطبيعة .
ويعتمد المفهوم السائد عن المرض العقلى في مرحلة معينة على ما إذا كان
الفكر الإسلامي المهيمن في تلك المرحلة يتميز بالتطور أو التأخر ؛ فعلى سبيل
المثال نجد أن المفهوم السائد في مراحل التأخر هو ذلك المفهوم السلبي الذي يعتبر
المربض العقلى ممسوسا” بأرواح شريرة ، في حين أن مراحل التنوير والإبداع
ترتبط بهيمنة مفهوم اختلال الانسجام مع المجتمع . . . الخ .
ولكي نفهم هذه الأبعاد الثلاثة لمفهوم المرض العقلى في الإسلام , وهى :
( أ ) المس .
(ب ) التجديد والتمدد في الذات .
(ج) اختلال الانسجام أو ضيق الوعي .
يجب أن نلم بالمزايا التي تتمتع بها الفلسفة الإسلامية , وهى:
( 1) العلاقة المباشرة مع الإله دون الحاجة إلى وسيط ؛ مما يجعل علاقة المسلم
بالله علاقة مباشرة ملهمة , واثقة .
(2) نظرة واقعية عملية لاحتياجات الجسد والروح , ذلك أن الانعزال والنكوص
والزهد والتطير المثالي ليس من دعائم الإسلام .
(3) هارمونية الفروض والطقوس مع الإيقاع البيولوجي الدوري ، مثل :
الصلاة ,الصيام , الوضوء, والهرولة بين الصفا والمروة .. الخ .
4) الاعتقاد في البعث والآخرة , وهو ما يفتح الباب لبحث لانهائي في معرفة
وخلق الزمن والذات .
5) حرية إبداعية غير محدودة ، تعيد تشكيل مستويات جديدة من الوعي .
لقد ذكرت النفس 185 مرة في القرآن كمصطلح عام للوجود الإنساني
كجسد وسلوك ووجدان وتصرف , أي كوحدة نفس-جسمية كاملة .
ولقد وجدنا توازنا” مثيرا” بين مراحل التطور البشرى السبع كما ذكرت في
الصوفية والتطور النفسجنسى طبقا” لفرويد , وكذلك النفس اجتماعي طبقا” لأريكسون , كلاهما (الأخيران ) ينتهيان دون ما وصلت إليه الصوفية .
لقد ارتبط ظهور الإسلام بتغييرات جذرية في سلوك العرب ، ولقد شاع أن
تعرف مرحلة ما قبل الإسلام بعصر الجاهلية ؛ ذلك أن تلاشي الحضارة العربية
القديمة والتي استمرت مايتجاوز ألفى عام , وامتدت إلى عصور الآشوريين
والبابليين , جعل الناس ينظرون إلى المرض العقلى تحديدا” باعتباره نتيجة
للأرواح الشريرة والجن .
لقد دفع القرآن باعتباره قانونا” دينيا” جديدا” , بالمسلمين إلى أسلوب جديد في
الحياة استبدل بشكل جذري النمط الحضاري للفترة السابقة عليه , ولسنا هنا في
حاجة للتأكيد أن القرآن ليس بمرجع طبي , ولا يجوز قياسه بالقياسات الأكاديمية
الحديثة , ولكن من وجهة نظر الطب النفسي نجد دلالة تاريخية مهمة في ذلك
الجزء من القرآن , الذي يتناول تفسير يوسف لحلم فرعون عن السبع بقرات
السمان والسبع بقرات العجاف , وكذلك نجد القرآن دقيقا” حازما” بشأن بعض
المشكلات الطبنفسية مثل الانتحار ؛ إذ يقرر بوضوح أن لا تقتلوا أنفسكم , ذلك أن
الله رحيم بكم . وقد وجد أن لهذا النهى أهمية كبيرة ى الوقاية من الانتحار , كذلك نجد أن نسبة إدمان الخمر منخفضة في البلدان العربية , ولا يخلو ذلك من
دلالة أن منع النبيذ جاء في القرآن على مراحل تدريجية , إذ ينص بداية على أن
(لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ، ثم يليه ما يفيد أن الخمر هي رجس من عمل
الشيطان , ثم أخيرا” النهى عن الخمر تماما” .
وتركزت فلسفة النهى في أن احتساء الخمر والمقامرة كليهما يؤديان إلى
العداوة والكراهية بين الناس ء ويلهيهم عن الصلاة , وقد امتد تحرم الخمر فيما
بعد بالقياس ليتناول المسممات والمخدرات الأخرى .
كذلك نجد أن الحوار التفصيلي بين النبي لوط وشعبه مثال على الدعوة
الواضحة لمحاربة الجنسية المثلية .
وسنتعرض باختصار إلى عدد من الموضوعات الأخرى المرتبطة بالصحة
النفسية , فهناك عديد من الآيات القرآنية التي تشير إلى الزواج والطلاق والرعاية
الأسرية والتبني والأيتام والنساء والزنا والدعارة والأبوة والمسئولية الشخصية , وموضوعات أخرى متعددة , تتضمن مبادئ محددة حول الواجبات الأخلاقية
والمدنية التي تحكم العلاقات الإنسانية .
وقد كان لتركيز الرسول ( صلى الله عليه وسلم) على العلاقة بين العوامل النفسية والأمراض
الجسمية أهمية خاصة ,وقد اتضح ذلك جليا” في قوله ما يفيد بأن الكروب المتراكمة
تؤثر على وظائف الجسد .
وقد كان لتعاليم المعالج الكبير الرازي أعمق الأثر على الطب العربي
وكذلك الطب الأوروبي , ومن أهم كتاباته <<المنصوري >> وكتاب «الحاوي» .
ويتكون الكتاب الأول من عشرة فصول . تتضمن وصف” لأنواع الأمزجة المختلفة , ويعتبر دليلا” متكاملا” في مجال الخلقة تدل على الخلق , أما كتاب <<الحاوي >> فيعتبر
أكبر موسوعة طبية أصدرها طبيب عربي , وقد تم ترجمتها إلى اللاتينية عام
1279 , ونشرت في عام 1486 , وتعتبر أول كتاب إكلينيكي يعرض الشكاوى
والعلامات والتشخيص المفارق والعلاج المؤثر للمريض .
ويعدها بنحو مائة عام, ظهر كتاب القانون لابن سينا , والذي يعتبر كتابا” تعليميا” يتميز بالتصنيف الأفضل والترتيب الذهني والتوجه المنطقي , وقد قدر له
أن يمثل أساس التعليم الطبي في أوروبا لعدة قرون . وقد جاء بعد <القانون > في الطب ا بن سينا عمل آخر لا يقل روعة , ألا وهو كتاب < الملكي > لعلى عباس الذي يعتبر مثل < الحاوي > للرازي عملا” خالدا” في مجال التنظير والممارسة في الطب .
اقرا ايضا :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق